مقدّمة-حوار

تصميم ابتسام ديب

كتابة: ديمة قائدبيه، صفاء ط.، زينب ديراني

اليوم، في 26 كانون الثاني 2022، نُجري كفريق تحرير هذا الحوار بهدف وضع مقدّمة تؤطّر عملنا على كتاب “ما تبقّى: تصورات نسوية بيئية”، حيث نسترجع الأسباب التي شجّعتنا على الغوص في هذا الموضوع. نستغلّ هذه الفرصة للعودة مجدّدًا إلى المفاهيم والأسئلة التي وجّهت عملنا، بعدما شارفنا إنهاء العمل على الكتاب. نتوقّف مرّة أخرى كفريق عند مفهوم “النسوية البيئية”، وما يعني لنا على المُستويَين السياسي والشخصي، وكيفيّة تشكُّله في هذا الكتاب، وتبيان أهميته في سياقنا الحاضر. نشارك بعضنا—ونشارككنَّ— ماذا تعلّمنا خلال الأشهر الماضية، وما أكثر ما أثّر فينا خلال فترة انغماسنا في هذا المشروع، وكيف انعكس الوضع الراهن في لبنان والعالم على هذا الكتاب ونصوصه، وعلى تعاملنا مع المواضيع المطروحة.
ونبدأ بالنقاش: لِمَ هذا الكتاب، ولماذا الآن؟


ديمة قائدبيه:

أستطيع أن أبدأ بالقول إنَّ العمل على موضوع البيئة والإيكولوجيا والنسوية البيئية، كان رغبة عندي منذ فترة ليست بقصيرة، وأصبحت تنمو مع الوقت، وفي السنوات الماضية كانت في بعض الأحيان تأخذ منحى يتناسب مع عمل ورشة المعارف، ولذلك طرحت هذا الموضوع للكتاب. كنّا قد عملنا في ورشة المعارف على التاريخ الشفوي للنساء في الحركة البيئية في 2017-2018. وازداد اقتناعي بأنَّ تقاطُع الحركات والأطر النسوية والبيئية يشكّل مساحة مثمرة للتفكير في العديد من القضايا المهمة، من الصحة، وأجسادنا، والاقتصاد، والبيئة التي تختفي من حولنا.

لمّا نشرنا الدعوة إلى تقديم النصوص، أوضحنا أنَّ تلاقي الحركتين النسوية والبيئية لا يعني التركيز على قصص النساء مثلما جرت العادة بل يشمل تجاربهن ويفهم قصصهن. وأردنا التطرُّق إلى هذا الموضوع على مستويَين أو طبقتين متداخلَين: على مستوى الأنظمة، وعلى المستوى الشخصي.

“تخلق هذه الأنظمة علاقات اجتماعية تعظّم من العسكرة والذكورية العنيفة وربحيّة الأفراد والشركات، فيما تقلّل من قيمة العلاقات القائمة على الرعاية والتبادل، وترفض المعارف المتوارثة عن الأرض كمصدر رزق، وتقمع كلّ أشكال الحدس والروحانية.”

ففي هذا الكتاب، ننظر إلى تشابُك الأنظمة الأبوية والاقتصادية والسياسية وكيف تغذّي بعضها: “تخلق هذه الأنظمة علاقات اجتماعية تعظّم من العسكرة والذكورية العنيفة وربحيّة الأفراد والشركات، فيما تقلّل من قيمة العلاقات القائمة على الرعاية والتبادل، وترفض المعارف المتوارثة عن الأرض كمصدر رزق، وتقمع كلّ أشكال الحدس والروحانية.” على هذا المستوى، يفسح تلاقي الفكرين النسوي والإيكولوجي المجال لبروز مواضيع مثل حق الجميع في تنفّس هواء وشرب ماء غير مشبّعَين بالسموم، وحق الوصول إلى الشاطئ والمساحات العامة؛ يفتح آفاقًا لسؤال النساء الأكبر عمرًا عن وصفات ترتكز إلى فصول السنة والمحاصيل، وعن فوائد النبات وما تقدّمه من شفاء، وعن أساليب الزرع؛ يسمح هذا التّلاقي بالتطرُّق إلى مواضيع العنصرية البيئية والسياحة البيئية والاقتصاد القائم على الاستغلال وعلى استخراج كلّ ما تنتجه الأرض بجشع، ولكنه في الوقت ذاته يفتح المجال للتفكير الأشمل في علاقات وأطر مختلفة للعيش.

ويتداخل مع هذا كلّه، واقع وتجارب وخيارات وأزمات نعيشها يوميًا على مستوى شخصي وجماعي، تدفع نحو أسئلة عن علاقتنا بالآتي: أين نعيش، وكيف نعيش، وهل سنعيش. هل سننجو؟ عندما نتحدث عن الطبيعة، نشير إلى أنَّ الناس بالطّبع هم جزء منها، وترتبط صحتهم بصحة الأشجار والأنهار، والعكس صحيح. إذًا، ما هي العلاقة التي استطعنا أن نبنيها مع بيئتنا، أو عجزنا عن بنائها لأننا حرمنا من هذه البيئة وصارت العلاقة مع الطبيعة هي مع شمس حارقة أو أمطار مدمّرة أو نفايات سامّة؟ يربط بين هذه الطبقات جانب آخر تتيح له النسوية البيئية مجالًا للتعبير عن نفسه، وهو “الروحانية”. تشمل الروحانية الحدس والحواس والترابط، والعلاقة المتبادلة مع الأرض وكائناتها ومع الفصول والتغيرات، وأيضًا العلاقة مع الباطن ومع أنفسنا كجزء من العلاقة مع الخارج ومع كل ما حولنا. بعض هذه الأمور قد لا يكون مُحبَّذًا في الدراسات ولا في العمل السياسي المنظّم، لكننا نعرف أهميته.

“من زاوية أخرى، النسوية البيئية هي مدخل للتفكير في إمكانات دعم حركاتنا بعضها بعضًا، وهو هدف طويل الأمد وصعب، لكننا نشرع فيه خطوة خطوة، ونحاول توريثه كعمل أساسي لمن سيأتي بعدنا، فهو عمل تراكمي، بين المجموعات، وبين الأجيال.”

من زاوية أخرى، النسوية البيئية هي مدخل للتفكير في إمكانات دعم حركاتنا بعضها بعضًا، وهو هدف طويل الأمد وصعب، لكننا نشرع فيه خطوة خطوة، ونحاول توريثه كعمل أساسي لمن سيأتي بعدنا، فهو عمل تراكمي، بين المجموعات، وبين الأجيال. وسأحكي عنه هنا لاحقًا.
ولكن أضيف هنا أنَّ تنامي الاهتمام المحلّي بالمواضيع البيئية كان مشجعًا لنا. قد تكون ثورة أو انتفاضة 17 تشرين (2019) علامة مفصلية: خلال هذه الفترة، استطاعت قضية مرج بسري استقطاب الاهتمام العام ونجحت الحملة في إيقاف إنشاء السد، وكانت هناك نقاشات مختلفة عن المساحات العامّة وحق الوصول إلى الشاطئ. أذكر أيضًا مختلف التظاهرات ضد بناء السدود قبل هذا التاريخ بأعوام، وبالطبع لا أنسى أنّ تحركات الـ2015 التي نسمّيها “طلعت ريحتكم” كانت احتجاجات ذات وجه بيئي مع أزمة النفايات. وشعرت أيضًا بتوسُّع دائرة الاهتمام بهذا الموضوع في الأوساط النسوية في لبنان، ما زادني اقتناعًا بأهمية تطوير هذا المرجع الذي أحب أن أفكّر فيه كبداية لأعمال لاحقة متنوعة. والمؤكَّد أنَّ هناك أيضًا توجُّهًا عالميًّا إلى التفكير في الإيكولوجيا والأنثروبوسين (أي الحقبة الزمنية حيث البشر هم المسيطرون، والمدمرون للأرض)، من حيث الاهتمام بالتغيّر المناخي، وحاليًا مع جائحة كورونا. وهناك عدد كبير من الناشطات النسويات والأكاديميّات اللواتي أعرف أعمالهنَّ، في أميركا وأستراليا وغيرهما، تمركزت آخر إنتاجاتهنَّ الفكرية حول هذه المواضيع. وكان عندي رغبة في أن يكون لنا مراجع نسوية بالعربية عن سياقنا وعن بعض من همومنا حول هذه المسائل.


صفاء ط.

بدأت تدور الفِكَر في رأسي حول النسوية الإيكولوجية/البيئية في سنة 2015، حين كانت الأزمة المباشرة، كما أشرتِ، هي أزمة النفايات في لبنان لكنها جرّت معها الكثير من التفكير في موضوع البيئة. في الفترة نفسها، تزايدت الأحاديث عالميًّا عن تأثير التّغيُّر المناخي على حياتنا جميعًا، فبدأت أرى أزماتنا من منطلقات متداخلة ومتوسعة أكثر.

“اكتشفت أنه في الواقع يوجد العديد من المبادرات التي تندرج ضمن إطاره، حتى لو لم تكن مصنفة كذلك. المهم عمليًّا، أنَّ ممارَسات النّاس على الأرض تشبه أطر النسوية البيئية، ولو لم تكن تطلق على نفسها هذا المسمى.”

تدريجيًّا، أصبحت النسوية أيضًا طريقة للنظر إلى المفاهيم والقضايا المختلفة من حولي. وفي الموضوع الإيكولوجي أو غيره أصبحت أستشعر هذه التقاطعات مع حياتنا ويومياتنا. في بداية الأمر، كنت أشعر بأنَّ المفهوم بعيد، كغيره من المفاهيم، نفكر فيه على المُستويَين الأكاديمي والنظري، لكننا نفتقد روابطه مع المجتمع والسياقات. فكنت أتساءل: هل هناك عمل فعلي على النسوية البيئية في المنطقة؟ وهل يمكن تطبيق نظرياتها على الواقع الخاص بنا؟ وأذكر هنا أنني أيضًا جزء من فريق “ويكي الجندر” وقد عملنا على هذا الموضوع في 2020. عندما طرحت زميلتي، إحدى محررات ويكي الجندر، في أوائل 2020، فكرة البحث والكتابة بالعربية عن النسوية البيئية كنت متخوفة جدًّا؛ كنت متشككة في إمكان العثور على أي مصادر باللغة العربية للكتابة النظرية أو لتوثيق مشاريع ومبادرات فاعلة من منطلق

نسوي بيئي. لكن حين بدأنا بالبحث كان الموضوع أمتع وأعمق ممَّا تصورت. وجدنا عددًا كبيرًا من المشاريع والمعلومات المهمة لنتعلمها في ما يتعلّق بالنسوية البيئية في المنطقة. اكتشفت أنه في الواقع يوجد العديد من المبادرات التي تندرج ضمن إطاره، حتى لو لم تكن مصنفة كذلك. المهم عمليًّا، أنَّ ممارَسات النّاس على الأرض تشبه أطر النسوية البيئية، ولو لم تكن تطلق على نفسها هذا المسمى.

في 2021، عندما أخبرتني ديمة عن مشروع كتاب عن النسوية البيئية، كان المفهوم قد أصبح أوضح بالنسبة إليّ، ولكن أيضًا شكّل محفّزًا للعمل على إصدارة ستوسّع فهمي له وتساهم في بحث أكبر عنه. أعتقد أنَّ من المهم في هذه المرحلة أن نضع كل ما ذكرته سابقًا في الاعتبار؛ فعندما نفكر في كتاب عن النسوية البيئية في لبنان قد نعتقد أنه بعيد مِنَ الواقع، لكن عمليًّا البيئة غير منفصلة عن الاقتصاد، وغير منفصلة عن علاقاتنا، وغير منفصلة عن يومياتنا، وعن مكان عيشنا، وعن الاجتماع، هي جزء من ذلك كلّه، وكل جزء منها يتقاطع مع الآخر. لذلك، من الضروري أن نبدأ بالحديث عن موضوع البيئة بتحديد تقاطعاتها مع الجندر والنظام الرأسمالي كما النظام الأبوي.

“تساعدني النسوية شخصيًّا في البحث عن العدالة في أي أمر آخر، سواء في بيئة أكثر عدالة للجميع، أم في كيفيّة إمكاننا أن نكون أكثر عدالة بطريقة تعاملنا مع البيئة، وفي إدراك كيف يبنى النظام الرأسمالي على غياب العدالة الإنسانية والبيئية، وأساليب تأسيس أنظمة أكثر عدالة معنا ومع البيئة.”

في مكان آخر، أشعر بأنَّ ما تضيفه النسوية إلى أي مفهوم آخر هو النظرة بطريقة أكثر عدالة. وتساعدني النسوية شخصيًّا في البحث عن العدالة في أي أمر آخر، سواء في بيئة أكثر عدالة للجميع، أم في كيفيّة إمكاننا أن نكون أكثر عدالة بطريقة تعاملنا مع البيئة، وفي إدراك كيف يبنى النظام الرأسمالي على غياب العدالة الإنسانية والبيئية، وأساليب تأسيس أنظمة أكثر عدالة معنا ومع البيئة.


زينب ديراني:

في المراحل الأولية مِنَ العمل على هذا الكتاب، قبل أن ننشر الدعوة إلى تقديم المقترحات والأوراق، كنا نُجري بحثًا حول أهم القضايا البيئية التي تتمَّ تغطيتها والعمل عليها في لبنان والمنطقة وعلى صعيد عالمي، ومن بينها قضايا لا تُمنَح الاهتمام في الحيز العام، مثل العلاقة مع الروحانية، أو عمل المزارعات، أو المتلازمات التي من المحتمل أنها تنتج عن تغيّر في نظامنا الغذائي. كثير من الكتابات التي اطلعنا عليها لا يأخذ مقاربة جندرية أو نسوية، لكننا فكّرنا في ما قد يضفيه الخطاب النسوي من خلال التقاطعات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والمنهجية. ورأينا أنَّ في كثير من الأحيان في الخطابات السائدة عن البيئة، يُحَمَّل الأفراد والمجتمعات الأكثر تضررًا والذين هم الأقل مساهمة في التلوث البيئي، مقارنة بالمصانع المحلية والشركات العالمية على سبيل المثال، المسؤولية الكاملة عن التدهور البيئي.


ديمة:

وأشير هنا إلى أنّنا منذ بدأنا بالحديث عن النسوية البيئية ونشرنا دعوة للباحثات/ين، الكتّاب/الكاتبات والفنّانات/ين إلى المشاركة في هذا الكتاب، لم نكن نستعمل مصطلح “النسوية البيئية” إلّا في الأشهر الأخيرة من العمل على هذا الكتاب، مع اختيارنا العنوان الفرعي له: “تصورات نسوية بيئية”. بالطبع، كان لدينا اطلاع على نظرية النسوية البيئية وبعض طروحها وأشكالها حول العالم، ولكننا كنّا حريصات على عدم افتراض ماذا يشمل العمل على المواضيع وماذا يعني، حيث تتفاعل النسوية والعدالة الجندرية مع الحركات والقضايا البيئية والمواضيع الإيكولوجيّة في لبنان؛ فالتصنيف لا يهم بقدر فهم طرائق العمل المختلفة التي تمنح الطبيعة والأرض والزراعة أهمّيّةً، كما المجموعات والناس حولها.

وقد رافق العمل على هذا الكتاب مسارٌ للتعرّف إلى المجموعات التي تعمل “على الأرض”، بغية خلْق وتطوير نقاشات نسوية بيئية تتمحور حول اهتماماتنا المشترَكة، أو ما أسميناه بنى تحتية عابرة للحركات والمجموعات. أردنا المساهمة مع من يعمل أو يفكّر في ربط القضايا والمجموعات واستراتيجيات التنظيم، لنستفيد من دعم بعضنا ونبني على خبرات ومهارات بعضنا. ونريد أن نستمر في استكشاف مختلف الطرائق لنقل هذه القضايا والخبرات والمعارف والاستراتجيات، لتحاكي مجموعات وجماعات وأجيال متعدّدة. وقد أثّرت هذه اللقاءات فِيَّ كثيرًا، وأمدّتني بالأمل؛ فبعدما ضاقت المساحات وأغلق عددٌ منها داخل بيروت، استفاد بعض النّاشطين من مختلف المناطق من خبراتهم السابقة وأحلامهم، فبنوا عليها، واستخدموا شبكات معارفهم للعمل على مبادرات جديدة تفسح المجال للاهتمام بالأرض وإدراج الزراعة أو الطبيعة ضمن العمل فيها. وجدنا أنَّ النساء جزء مهم من هذه المجموعات في مختلف المناطق، إذ كنَّ مؤسِّسات وصانعات قرار ومشارِكات. ويمكن التعرّف أكثر إلى هذه النقاشات الّتي أجريناها، والرحلات التي قمنا بها في الفصل 13 من هذا الكتاب.


” هناك المزيد دائمًا ممَّا يمكن أن نخسره، ولكنّ هذا يعني أيضًا وجود ما نحافظ عليه. وهذا ربما يأخذنا إلى مكان آخر، إلى الخيال النسوي، فالتفكير في النسوية والبيئة والاحتمالات للمستقبل هو مساحة لنا لنتعلّم ولنتخيّل كذلك.”

زينب:

بالحديث عن هذه الرحلات، علقت في ذهني جملة قالها إسماعيل الشيخ حسن خلال زيارتنا الجنوب، وهي: “صيدا الآن تشبه بيروت منذ خمسين أو ستين سنة.” أي عندما كانت بيروت مدينة فيها أشجار ومساحات خضر. جعلتني أدرك أنَّ صيدا الآن هي عند نقطة مفصلية قد تحدّد مستقبلها، وربما مستقبل عكار والبقاع وكلّ المناطق كذلك. هذه الزيارات التي قمنا بها لنتعرّف إلى المبادرات المختلفة ذكّرتنا بوجود إمكانيات متعدّدة دائمًا للمسارات التي من الممكن أن تأخذها هذه المدن في تحولها؛ هناك المزيد دائمًا ممَّا يمكن أن نخسره، ولكنّ هذا يعني أيضًا وجود ما نحافظ عليه. وهذا ربما يأخذنا إلى مكان آخر، إلى الخيال النسوي، فالتفكير في النسوية والبيئة والاحتمالات للمستقبل هو مساحة لنا لنتعلّم ولنتخيّل كذلك.


صفاء:

ما أثار اهتمامي في سيرورة العمل على الكتاب والمساهمات الموجودة فيه، كان القصص والتجارب. شعرت بأنّ جميع المساهمات، إن كانت بحثية أم تأملات شخصية أم أعمالًا فنية، كانت وراءها قصص عن علاقة الناس بالطبيعة، سواء كانت علاقة الكاتب أو الكاتبة بها، أم الأشخاص في حياتهما، أم الناس الذين قابلناهم/هنَّ. وكل قصة تحمل منظورًا يعرّفنا إلى جانب جديد من النسوية البيئية. من الجميل أن نمتلك هذه القصص، ونؤرشفها، وأن تبقى، وأن نبني معها علاقتنا الخاصة، ونرى من خلالها وفرة الجوانب المشترَكة بيننا وبين هؤلاء الناس كلّهم، وأن نُظهِرَ كيف أنَّ لكل منا قصّته الشخصية المختلفة عن قصص الآخَرين. لكن تبقى الأرضية المشترَكة علاقتنا مع الطبيعة. كما تشترك القصص في تصوير مظاهر مختلفة لقمع النّساء والطّبيعة مِن قِبَل النظام الأبوي و/أو الرأسمالي.

تظهر القصص في هذا الكتاب طبقات مختلفة لهذه العلاقة مع الطبيعة حسب السياقات، فهي أحيانًا مصدر انفعالات ومشاعر وأحيانًا مصدر إلهام للإبداع، ومساحة للترفيه والشعور بالحرية، ومصدر رزق أو سبيل لمواجهة الانهيار، وساحة دفاع عن الحقوق، ومساحة للتفكير والتأمل.

ساهم هذا التنوّع في خروج موضوع النسوية البيئية من خانة بحثية/علمية بحت، إذ كسب حيواتًا جديدة، من خلال إحيائه في قصص ناس يعرفون كيف كان شكل الطبيعة قبل أن تؤثّر عليها كلّ التّغيُّرات التي مرت بها، وآخرين/أخريات يدركون/نَ أثر غياب تلك الطبيعة على حياتهم/نَّ الآن وما ينقصها جرّاء ذلك. الموضوع ليس محدودًا بتلوّث النهر فقط على سبيل المِثال، بل يشمل الحيوات التي تغيرت، والمجتمعات التي تأثرت، ومصادر الرزق التي تضرّرت، وأساليب الحياة التي حرّفت، ومساحات الاستجمام التي شوّهت بسبب هذا التلوث. حاولنا أيضًا أن نروي قصة المريمية (الفصل 8) بلسانها، من خلال ما جمعناه من معلومات وقصص عنها. ومع أننا نعرف أننا لن نلتقطها كبشر بحقيقتها، إلَّا أننا نحاول أن نقول إِنَّ لكل عنصر من عناصر هذه الطبيعة حكايته أيضًا، وإِنَّ ممارساتنا تساهم في تغيير تصوُّر هذه الحكاية.

وبلا شك، نحن نعمل في سياق انهيار اقتصادي، وأزمات اجتماعية، أثّرت على معظم النصوص الواردة في الكتاب.


“يوجد في معظم النصوص ما يعبّر عن علاقة ما بين الإيكولوجيا والاقتصاد، منه ما يتعلّق بهموم الناس الاقتصادية، ومنه ما يتطرّق إلى النساء العاملات في مجال الزراعة، وذلك من منظور اقتصادي محدَّد، ومنه ما يتناول تبعات وضعنا الحالي على علاقة الناس بالبيئة والزراعة.”

صفاء:

يوجد في معظم النصوص ما يعبّر عن علاقة ما بين الإيكولوجيا والاقتصاد، منه ما يتعلّق بهموم الناس الاقتصادية، ومنه ما يتطرّق إلى النساء العاملات في مجال الزراعة، وذلك من منظور اقتصادي محدَّد، ومنه ما يتناول تبعات وضعنا الحالي على علاقة الناس بالبيئة والزراعة. ويقودنا ذلك إلى تقاطع أكبر وهو تقاطع النظام الاقتصادي بشكل عام مع البيئة، بشكل واضح وصريح، كما في بحث لمى أبو خروب (الفصل السادس) وهند يونس (الفصل السابع).
نحن نعيش الآن هذا الانهيار الاقتصادي في لبنان، ونعي أنَّ ذلك نتيجة عشرات السنوات من نظام اقتصادي قاهر واستغلالي كان يدمّر البيئة بطرائق شتّى، مثلما يدمّر فئات من المجتمع ويهمشها؛ فالانهيار ليس اقتصاديًّا فقط، بل اجتماعي وبيئي، إضافة إلى سنوات من القمع على مستويات كثيرة، من قمع الحريات إلى قمع النساء. أرجو أن يفتح هذا الكتاب، وغيره من الأبحاث في هذه الفترة، مجالات جديدة لنعرف أكثر عن الرابط بين الاقتصاد والبيئة في العقود السابقة، ومجالات تساعدنا في تصوُّر اقتصاد أفضل وأكثر عدالة بيئيًّا، وجندريًّا، أي اقتصاد عادل من منظور نسوي بيئي.


ديمة:

بوافق معك، وقد ذكرتِ نَصَّي هند يونس ولمى أبو خروب؛ ففي بحث هند، يصبح حرمان النساء من وراثة الأراضي موضوعًا نسويًّا-بيئيًّا، خصوصًا حين نركّز على علاقة النساء بالأرض، كما فهمنا أكثر التداعيات الاقتصادية لهذا الحرمان عبر الأجيال. وفي المقابل، تعرض لنا لمى استغلال المزارعات الفلسطينيات بشكل مفصّل، ويتطرق بحثها أيضًا إلى فقدان الشعور بالانتماء عند المزارعات اللواتي قابلتهنَّ؛ والسبب ليس أنَّ النساء فلسطينيات في أرض “لبنانية”، بل هذا الاستغلال والظلم اللذان لا يسمحان بقيام أي علاقة مع الأرض، ولا مع الأشخاص.
وفي العديد من المؤلفات عن النسوية البيئية والإيكولوجيا بشكل عام، خاصة باللغة الإنكليزية، هناك إشارة إلى تقارب أو تقاطع ما بين الإيكولوجيا [ecology] والاقتصاد [economics]، من خلال الجزء المشترَك بين الكلمتين [eco]، والّذي يعني المنزل باللاتينية. وأعتقد أنّ الوضع الحاليّ، وهو حال الكثيرات منّا، هو ما دفعنا إلى التّفكير أكثر في موضوع الاقتصاد. قبل الـ2019، لم أكن أفكّر بجديّة –أو نفكّر بشكل جماعي— في القطاع المصرفي والسياسات الاقتصادية، وفي أسباب تمجيد السريّة المصرفية مثلًا. بالطبع كنا نتكلّم على هذا الموضوع، وكان عدد من الناس يعمل ويفكّر في هذه المواضيع، لكن لم يكن الاقتصاد يأخذ حيزًا من يومياتي مثل ما يحصل منذ 2019، أي منذ الانهيار الذي عرفنا أنه آتٍ قبل ثورة 2019. اليوم صار الواقع الاقتصادي شيئًا يوميًّا، حميميًّا، وليس فقط في الخلفية. الأوهام التي كنّا نعيشها تنكسر أكثر كل يوم، لكنَّ اللامساواة تعمّقت في الوقت ذاته؛ وهنا الخوف مِن أن تنكسر أحلامنا أيضًا مع أوهامنا.

أقرأ في هذه الأيام الأعداد الجديدة من مجلة “بدايات” التي تركّز على النيوليبرالية والاستهلاك. أرى الروابط حين أطالع فيها مقالات تتناول تغيُّر المجتمع بعد الحرب الأهلية (وقبلها أيضًا)، مع تعزيز هوية وأسلوب حياة قائمة على الاستهلاك والمظاهر، تعطي معنى سطحيًّا-مادّيًّا للحياة، وتصبح أيضًا رأس مال اجتماعيًّا. ينتج هذا النظام رغبات وحاجات جديدة (فكرية، وماديّة، وغذائية) نستطيع استهلاكها بسهولة، كما ينتج سعيًا دائمًا إلى إشباعها. في هذا السياق يصبح الاتكال أيضًا على السيارة الخاصة، على حساب إهمال النقل العام والجماعي وتدميره. هذا الأسلوب قد يفبرك صورة جميلة لنساء “متحررات”، لكنه لا يحقّق العدالة، ولا يتعامل بجديّة مع العنف القائم على الجندر ومع استغلال العمل المنزلي والرعائي واليد العاملة الرخيصة. وربما يكرّس الربح المادي والنظام الاستهلاكي بيئة مصطنعة جميلة وآمنة لبعض الناس، ولكنه لا يحافظ على بيئة قابلة للحياة، ولا بيئة تكون حقًّا للجميع، مثلما الشمس والماء والهواء للجميع، أو يجب أن تكون. كما يمكن أن يشير المنظور النسوي هنا إلى أنّ الرجال هم المُسيطِرون على عالمَيِ الاقتصاد والسياسة، مع منظومة تتوارث السلطة من الأب إلى الابن، لكن نعود إلى فكرة الأنظمة وكيف تغذّي بعضها، وإلى التحاق بنموذج نيوليبرالي للتطوّر بدلًا من العلاقة العضوية المتكاملة مع تاريخنا وقصصنا، كما تشير صفاء في مقالها في هذا الكتاب (الفصل 11).

والاقتصاد والإيكولوجيا يعبران الحدود. ربما في السنوات الأخيرة، أصبحنا عالقين أكثر في مستنقع أزماتنا بين جائحة الكورونا والانهيار الاقتصادي ونقص البنزين، وبقينا في منازلنا معظم الوقت. لكنَّ الجوانب الإيكولوجية والاقتصادية تتحدّى الحدود المكانية (والزمنية). أعطي مثالًا عن ذلك في بحث أسمى الحجل (الفصل (10 وهي تعرض كيف أنّ أضرار تلوّث نهر الليطاني لا تتجلّى فقط عند ضفة النهر؛ فهناك جوانب عابرة لحدود الأوطان، وهذا واضح في نص زينب عن الأنظمة الغذائية وعلاقتنا كنساء بأجسادنا (الفصل الأوّل). وبالطبع الموضوع البيئي أصبح من أكثر المواضيع طرحًا على الصعيد العالمي، إنَّما هنا في لبنان اليوم، هذه القضية لها أولويات أخرى، وهذا ينطبق على الدول غير الصناعية وتلك التي تمرّ في أزمات اقتصادية كبيرة، حيث الاهتمام بالأمن الغذائي، وضرورة تطبيق سياسات متوازنة، والاستفادة المتوازنة من مواردنا، بدلًا من تدمير البيئة وتهجير النّاس ذوي المهارات المُختلفة وتجويعهم.


زينب:

نعم، ففي صيدا، هناك جبل الزبالة. نراه، ونشمّه. في بعض الأحيان، قد لا نراه، لكن نشمّه من بعيد. وجوده يتخطى مساحته، بالروائح والأمراض الّتي ينشرها، وبالتلوث الناجم عنه، وبالعنف الذي يمارسه على البحر والهواء والأرض والمياه والكائنات الحية. عندما كنت صغيرة، كنت أظن أنَّ لكل مدينة جبل النّفايات الخاص بها. كنت أود زيارته، لكنَّ رائحته زارتني أوّلًا. الآن، طُمِرَ جبل الزبالة وأعيد تأهيله ليصبح حديقة عامة مقفلة معظم الوقت، لا يزورها أحد بسبب رائحتها الكريهة نتيجة عدم تأهيلها بالحرفية والمعايير المطلوبة. يوجد معمل إعادة تدوير بُنِيَ في صيدا، بقي غير مستخدم لفترة طويلة، بسبب عدم اتفاق القوى السياسية في المنطقة على كيفية تحاصصه. وبعدما بدأ العمل فيه، لا يزال يُستغَلّ في دورات الانتخابات البلدية والنيابية، حيث يتم التفريط بصحة أهالي المنطقة على حساب مصالح سياسية وشخصية في كل معركة انتخابية.

كلّ ما هو في الكتاب جعلني أفكّر في ارتباط حياتنا بالبيئة، وبكم كان مؤذيًا هذا الانفصال المفروض علينا، بطرائق قد ندركها أو لا ندركها. أفكّر أيضًا في عملنا كلّه في ورشة المعارف في الأشهر الماضية، وبتركيزنا في مشروع الحكايا والتاريخ الشفوي النسوي السنة الماضية على علاقة النساء بالبحر، والتجارب المكانية الخاصة بالأشخاص الكوير، وبكيفيّة ظهور القصص الشخصية للنساء والأشخاص غير النمطيين/ات، حول علاقتهنَّ/هم بالبيئة والأرض حتّى حيث لم نكن نبحث عنها.


ديمة:

وحين نظّمنا في 2021 كذلك ورشة عمل حول المطويات، قرّرنا أن يكون موضوعها الأساسي علاقة الأشخاص، خاصة النساء والأشخاص الترانس، بالأرض والأكل والتعافي. وبعد إنهاء العمل على المطوية، خطرت لنا فكرة نشرها في هذا الكتاب، نظرًا إلى ترابط المواضيع.


صفاء:

تختلف موضوعات هذا الكتاب وتتنوّع بشكل غني أيضًا، من الأرض إلى النهر، إلى الأجساد، إلى نص ريم جودي عن الأعمال الثقافية والفنية (الفصل 4)، ونص مهاد حيدر (الفصل 5) عن الأعمال الأدبية والروايات، ومحاولة رؤيتها من منظور نسوي بيئي. أدهشني نص إليزابيث صالح أيضًا، بما يحمله من ابتكار في الفكرة نفسها وشجاعة في معالجة موضوع “الباركينغ في بيروت” (الفصل 3). تتمكن إليزابيث من تحدي مفهومنا للمساحات المشترَكة، ومن توسيع إدراكنا ما نخسره كلما كبرت شركة أو مصرف.

منذ بداية الدعوة إلى الكتابة، بحثنا عن تنوع في الأساليب الكتابيّة والمقاربات. أطلقنا دعوتين، واحدة تتعلّق بنصوص ومساهمات شخصية وفنية وأخرى بمقالات وأوراق بحثية، وتركنا للمؤلفات حرية اقتراح الموضوعات كما يرين هُنَّ الإيكولوجيا وتقاطعها مع النسوية أو حتى حيواتهنّ كنساء و/ أو أشخاص كوير. وضعنا كذلك دعوة مخصصة للباحثين/ات، عرّفتنا إلى أسمى الحجل الّتي عملنا معها على بحثها المتطرّق إلى نهر الليطاني. أردنا أيضًا أن يكون الكتاب مفتوحًا لمختلف وسائل التعبير وأنواع الفنون وليس الكتابة فقط. لذلك، تضمَّن هذا الكتاب ثلاثة أعمال فنية منها الرسم الذي أنجزته رنا علوش (الفصل 9)، والتصوير الفوتوغرافي الذي استعملته لين عون للتأمل في علاقتها بأوراق الكركديه وجسدها (الفصل 2)، كما الرقمي مع ابتسام بأسلوبها الفريد (الفصل 14). وقد عملنا لاحقًا مع ابتسام كمصممة للكتاب ككل، وكان هذا التعاون ممتعًا لنا، للتوصّل إلى تصميم بصري يعبّر عن الروحية التي أردناها لهذه الإصدارة.

العمل مع المساهِمات في الكتاب كان رحلة تعلُّم لنا كفريق تحرير، وكشف عن اتساع المقاربات للكتابة عن النسوية البيئية. كذلك، أضاف العمل مع فريق المراجعات نظرة نقدية إلى النصوص ووسّع آفاقنا للتحليل.
أشعر وأنا أقرأ كلّ مساهمة بأنها تزيدني معرفة جديدة بطرائق جديدة، وبأنَّ كلّ أسلوب كتابة مختلف عن الآخر؛ فمنها ما هو شاعريّ أو سرديّ، ومنها ما يميل إلى الأسلوب البحثي العلمي، وهناك ما يميل إلى أسلوب المقال أو التقرير، وهذا ما شجّعنا عليه منذ البداية، إذ أردنا لهذا الكتاب أن يكون أداة متعددة الأوجه في إيجاد طريق أو رابط للقراء والقارئات مع موضوعه.

“حين أفكر في ما أنجزناه من خلال هذا الكتاب، أستحضر ما كتبته ديمة (الفصل 15)، عن مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة، وأرجو أن نكون، بتوثيقنا تجاربنا هذه، اليوم، قد أوجدنا المساحة لشيء ما في المستقبل.”


  1. دعوة لتقديم الأوراق. النسوية والإيكولوجيا: قصص عن التقابل والتكافل.
    https://www.alwarsha.org/call-feminism-ecology-ar/
  2. للاطلاع على صفحة “ويكي الجندر” حول النسوية البيئية:  https://genderiyya.xyz/wiki/نسوية_بيئية
  3.  “صعود الاستهلاك المُقدّس في لبنان ما بعد الحرب.” منى خنيصر وسارة محيو. بدايات. العدد 32. 2021. 50-58.
  4.  “مجتمع الاستهلاك أو رسملة القيم” عبد الإله بلقزيز. بدايات. العدد 32. 2021. 59-68.
  5. “ثقافة الاتكال على السيارات الخاصة في بيروت.” مارك بيري. ترجمة فيفيان عقيقي. بدايات. العدد 33. 2021. 24-37.
  6. “أسوار الحرب وأسوار ما بعد الحرب.” مات ناش. ترجمة فيفيان عقيقي. بدايات. العدد 33. 2021.14-16
  7. “جبل الزبالة يدشّن معركة صيدا الانتخابية.” آمال خليل. الأخبار. الاثنين 23 تشرين الأوّل 2017.
    https://al-akhbar.com/Politics/239548
  8. “دعوة لتقديم قصص ونصوص شخصية عن النساء والبيئة”.https://www.alwarsha.org/call-for-personal-stories-ar/