تسعينيات نسوية- مقدّمة

تسعينيّات نسوية: إطار، ومسار، وحوار

في الإطار، بقلم ديمة قائدبيه[1]

في العام 2017، في مقابَلة أجرتها “ورشة المعارف” مع الكاتبة جين سعيد مقدسي، دعتنا جين، نحن، “النسويات العربيّات” إلى “القيام بواجبنا” والالتفات نحو تاريخنا كطريقة لاستكشاف حاضرنا ومستقبَلنا.[2] وضمن هذا الكتاب أيضًا، تكتب جين عن الناشطات والنسويات في التسعينيات، مُوجِّهَةً الرسالة نفسها: “لدينا الكثير من الفروض لإنجازها حول ماضينا.” إذًا، هناك الكثير لنتعلّمه، والكثير لنتفاجأ به، وهناك مواجَهاتٌ ينبغي لنا خوضها، وأسئلة صعبة يجب علينا طرحها، ومعظمها مع أنفسنا. لكن في النهاية، يبقى هذا الماضي هو الأساس الحيوي للعمل والتوسّع.  كنّا، طوال الوقت، على دراية بضرورة اتباع نهج لِماضٍ مُتحرك ومُتعدِّد الطبقات، واعتماد إطار عمل يحتفي بالمُستقبَل وبالعديد من القصص.

كان اهتمامنا أيضًا مُتعدّد الجوانب في هذه الإصدارة، إِذْ إنّنا أدركنا أهمّية التعرّف إلى الحركات النسوية والنسائية خلال ذلك العقد، في مساراتها، واهتماماتها، واستراتيجيّاتها المتنوّعة. سوف يميّز أكثر من مقال في هذه الإصدارة بين الحركة النسوية والحركة النسائية، حيث حاولت بعض النسويات خلق سلالة لننتسب إليها اليوم، كما لاحظت فاطمة الموسوي في استكشافها المثير عن الحركة النسوية في لبنان خلال التسعينيات. في الوقت نفسه، أردنا التعرّف إلى السياق العام والنظر إلى الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال التسعينيات، بعيون نسوية تعطّل الافتراضات الجندرية القمعية والمُبسّطة.

ومع تحوُّل انتباهنا إلى الحركة النسوية في التسعينيات، كنّا ندرك حاجتنا إلى طرح أسئلة مُرتبطة بنا اليوم، والتي ربّما لم تكن مهمّة في ذلك الوقت.

لذلك، منذ بدء التفكير في هذه الإصدارة، كنّا متحمّساتٍ لإمكانيّات التواصل عبر الأجيال والمجتمَعات، وعبر أطر مختلفة من المراجع، للحديث عن القضايا النسوية؛ أردنا أن تتوقّف هذه الإصدارة عند النضالات الطويلة والصعبة للنسويات والمنظّمات النسائية في التسعينيات وأن تقدّرها، وكذلك دفعنا الأسئلة الناقدة الموجّهة إلى المُنظِّمات والأفراد حول تلك الفترة. شئنا أيضًا معرفة كيفيّة نموّ الحركة وتغيُّرها، وكيف تُهمّش القضايا خلال فترة ما، وكيف تكتسب الزخم بعد أعوام طويلة من التهميش والعمل عكس التيّار، وكيفيّة البناء على عمل بعضنا. سعينا أيضًا إلى فهم كيفية بروز المشهد الذي وصلنا إليه في بداية القرن الحادي والعشرين، وأسباب شعور كثيرات منّا في أوائل هذا القرن بأنّهنَّ يبتكِرنَ القضايا ويتحدَّثنَ عنها للمرّة الأولى. هذه التّساؤلات نطرحها على أنفسنا الأصغر سنًّا، وعلى النسويات المخضرَمات.

لماذا اخترنا التسعينيات من بين الفترات كلّها في لبنان؟ نشأت فكرة الكتاب للمرّة الأولى من خلال تصوُّر عبقري لمؤسِّسة “ورشة المعارف” (ومديرتها المشارِكة حتى العام 2020)، سارة أبو غزال، في قرابة نهاية العام 2019 وأوائل الـ 2020. أدركت سارة أننا سنعجزُ عَنِ التنظيم خلال العام 2020 كما كنّا نفعل دائمًا (وكان ذلك قبل أن نسمع عن جائحة كوفيد-19)، وبالتالي يجب علينا أن نوجّه جهودنا نحو إصدارة تغوص في صميم مهمّة “ورشة المعارف” ورسالتها، أي التذكّر، والتواصل، وإنتاج محتوى وتاريخ نسويَّين.

ومع مرور الأسابيع والأشهر الأولى من العام 2020، نضجت الفكرة لتستقرّ على فترة التسعينيات.

كانت تسعينيات القرن الماضي عقدًا قد بدأت النسويات تتذكّره منذ مدّة، خصوصًا أنَّ العام 2020 تزامَنَ مع الذكرى الخامسة والعشرين للمؤتمَر العالمي الرابع للمرأة، أو مؤتمَر بكين، الذي سوف تقرأن عن أهمّيته بالنسبة إلى النسويات في لبنان في العديد من فصول هذه الإصدارة؛ فقد تبع هذا التجمّع الضخم إنشاء منظَّمات نسوية ونسائية من أجل العمل على قضايا وجدت حياة وطاقة جديدتَين بعده، ما دَفَعَ قدمًا عصر طُغيان العمل ضمن المؤسسات غير الحكومية على الحركة النسوية، وتأطير نضالات الحركة ضمن هذه المنظَّمات. كان هذا التحوّل مهمًّا بالنسبة إلينا لإعادة النظر فيه، مع مراعاة التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية الأكبر. فهل ساهمت هذه التغيّرات في تجسيد حدود جديدة للحركة، وربما عزلها أحيانًا عن الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى؟ بالإضافة إلى ذلك، وخلال الفترة الأخيرة، استحضر العديد من الناشطات والناشطين عقد التسعينيات في لبنان، لا سيّما في أثناء انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وبعدها، بعدِّهِ العقد الذي أطلق ما سُمّي بالحريرية الاقتصادية والسياسية التي أدّت إلى الانهيار الذي ما يزال يتكشّف فصولًا في العام 2021، مُدمِّرًا حياة الناس وسبل عيشهم. كما شهدت التسعينيات النهاية الرسمية للحرب الأهلية، لكنَّ جنوب لبنان بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي، أمّا المناطق الأخرى فكانت تحت سيطرة النظام البعثي السوري. فكيف كان الوضع بالنسبة إلى النساء والنسويات؟ لم يمضِ وقت طويل على عقد التسعينيات، لذلك فإنَّ كثيراتٍ منا يتذكّرنه، فضلًا عن أنَّ الكثيرات من النسويات والناشطات حولنا كنَّ فاعلاتٍ خلال تلك الفترة، لكنه في الوقت نفسه بعيدٌ في الزمن بالنسبة إلى النسويات الشابّات اللواتي لا يعرفن الكثير عنه.[3]

“آفة حارتنا النسيان”. استعانت سارة أبو غزال بكلمات نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا”، في مقالها في صوت النسوة، في العام 2015، لوصف نمط النسيان المُتكرِّر بين النسويات في لبنان، والوقوع في “فخّ التجديد” القائم على النسيان والتقوقع بدلًا من التجسير والبناء.[4] في الواقع، على الرّغم من أنّ فترة التسعينيات ليست بعيدة زمنيًّا، لكن كان من المُذهِل إدراك ما نسيناه عن ذلك العقد في “حارتنا النسوية” وعنها. نحن نعرف القليل جدًّا عن قصص جيل ما يزال حولنا، ولكن لم تُتَح لنا الفرص الكافية لطرحها وسردها، والاستماع إليها بشكل جماعي. ومن المُحزن أننا لا نتذكّر أسماء مجموعة كبيرة من النسويات والناشطات اللواتي قمن بأعمال هامّة، على الرّغم من أننا نبني على نضالهنَّ من أجل التأسيس للحاضر والمستقبَل. لكن في الوقت نفسه نتنبّه لعدم إلقاء هالة الكمال على عمليّة تذكُّر النسويات المُخضرَمات والأسلاف والتعرّف إليهنَّ، إذ يمكننا أن نقدّر النضالات وأن نرى في آنٍ (وفي بعض الأحيان، أن نتفهّم) الإخفاقات والأخطاء التي حصلت.

تسعى هذه الإصدارة إلى التحرّك بضع خطوات نحو معالَجة آفة النسيان والشفاء منها؛ ففي سياق التسعينيات، ومع نهاية الحرب، نعرف أنّ الكثيرات من النساء والنسويات حاولن عدم التذكُّر، ليتمكّنَّ من المضي قدمًا في حياتهنَّ وعملهنّ الذي توقّف قسرًا لمدّة خمس عشرة سنة.[5] من ناحية أخرى، على الرّغم من كلّ الحديث عن النسيان الجماعي في لبنان، تُذكّرنا هذه الإصدارة بأنّ بعض المجموعات والمجتمَعات يعجز عن النسيان والمضي قدمًا (إسوة بتجربتَي وداد حلواني وليلى العلي في الفصلين 10 و11 على التوالي). في الواقع، غالبًا ما تتعرّض هذه المجموعات للهجوم لأنها تتحدّث علانية، ولأنها لم تنسَ. نقرّ أيضًا بوجود الكثيرات من النساء اللواتي سيبقين بلا أسماء ولن يُسلَّط الضوء على مساهمتهنَّ، وهو ما تشير إليه سينتيا عيسى (الفصل 14) ولينا أبو حبيب (الفصل 16) في مقالتيهما في هذه الإصدارة. قد يكون هذا “النسيان” بسبب الخوف أو الإهمال أو عدم القدرة على التوثيق، أو ربّما لأننا في بعض الأحيان نتذكّر بسهولة من هنّ/ كنّ في المركز وفي دائرة الضوء، أو لأنّ بعضهنّ لا يريد الظهور إلى العلن أو في مواقع القيادة، فيؤدّي عمله ويَمضي. عمومًا مهما كان السبب، فإنّ هذه الإصدارة تشكر هؤلاء النساء وتقدّرهنَّ، كما تقدّر مساهماتهنَّ أيضًا.

لطالما شعرتُ بأنَّ التذكّر، والتأريض، والتواصل، ورواية القصص، وإنتاج المعارف، هي أعمالٌ روحية-فكرية، وبأنّها أعمالٌ سياسية أيضًا، كونها تهدف إلى إحداث تحوُّلات في حياتنا وفي القصص التي نرويها. وهذا أمرٌ لا أتخلى عنه، ولكنني ما زلت أجد نفسي أعود إليه مرّة بعد الأُخرى.

أعود إلى الإطار التالي في هذا الكتاب: أنّ أيّ لحظة من النشاط النسوي تحمل ماضيًا مُتعدِّدًا، وترتبط بالعديد من القضايا والأحداث المعاصرة الأخرى، وتنطوي على العديد من الاحتمالات التي تتجه نحونا ونتجه نحوها.[6] بالطبع، قد لا نكون واعين أبعاد هذا الماضي والحاضر كلّها (أو “المواضي” و”الحواضر” المتعدّدة)، أو ربّما نحاول عمدًا استبعادها أو إبعاد أنفسنا منها. مع ذلك، أسعى من خلال هذا الإطار إلى الانفتاح على قصص من فترات ووجهات نظر مُختلفة، حيث أقترح هذا الإطار كبديل لتصوُّر تاريخ النسوية من خلال الموجات المجزأة، والتي عادةً ما تتّبع خطًا مستقيمًا chronology في علاقتها مع الوقت. 

على الرّغم من فائدتها، إلّا أنَّ سرد قصّة أيّ حركة وفقًا لموجات، لا يعكس التاريخ المعقّد، وتشابُك الروايات، ووجهات النظر، والعلاقة مع الوقت.[7] في الواقع، إذا استخدمنا الموجات كطريقة لتحديد الفترات التي تزدهر فيها الحركة وتكتسب زخمًا، فقد لا ننتبه إلى الفترات الأقل زخمًا، على الرّغم من حدوث تحرُّكات وإنجاز أعمال مهمّة. وإذا استخدمنا الموجات للتحدّث عن تحوّلات  بارزة في الخطاب والاستراتيجيّات، أعتقد أنّه سوف يكون لدينا أكثر من أربع موجات يجب أخذها بعين الاعتبار، وقد نلاحظ أنَّ بعض التغييرات المرئية ربما تحصل كلّ 15 أو 20 عامًا، بالتزامن، ربّما، مع تغيرات في الوضع السياسي-الاجتماعي، وظهور جيل جديد من الناشطات. لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ أشكال التنظيم والخطاب الأخرى والأقدم ليست موجودة إلى جانب الآليات الجديدة، حتى لو لم تحظَ بالقدر نفسه من الاهتمام.[8]

لكن بمعزل عن الإطار المُستخدَم لرواية تاريخنا، أنا أؤمن بالنية النسوية الجماعية لنا لرواية القصص بمزيد من التعمّق والنظر في الأبعاد المتشعِّبة، ولإيجاد المزيد من نقاط التلاقي، فضلًا عن استكشاف الظلال أو الأسئلة والقضايا التي يصعب علينا، لسبب أو لآخَر، مواجَهتها كمجموعة أو كأفراد أحيانًا. وربّما يكون توقيت سرد هذه القصص عن التسعينيات مهمًّا أيضًا، فنحن نسبر في هذا الماضي فيما نشهد تغيّرات هائلة، وهجرات كبيرة، وعمليات استقطاب وتحريض. في الواقع، نعيش حاليًا في أوقات عزلة وانفصالات عديدة، ولكنّها أيضًا أوقات لترابط عالمي غير مألوف. من الواضح، إذًا، أنَّ هذه الفترة سوف تشهد المزيد من الإفقار، ليس فقط اقتصاديًا، إنّما أيضًا تعليميًا وثقافيًا، وهذا هو الوقت الذي تكون فيه الحركة النسوية ضرورية للغاية لأنها تولي جميع طبقات وجودنا المختلفة اهتمامًا كبيرًا: الداخلية، والشخصية، والمحليّة، والعالمية، وتربط بين أشكال العنف المُختلفة والأساليب العديدة التي يقاوم بها الأفراد والمجتمَعات؛ فالنسوية التي نحبّها ونريدها تهتمّ أيضًا بكيفية وبأسباب وصولنا إلى هنا، وبوجهتنا المستقبليّة. ومن أكثر ما يثير اهتمامنا هو التلاقي مع حركات وقصص ونظريات وأطر نجهلها، لنستمر في التعلّم.

في الوقت نفسه، وبالنهج الذي نتبناه، أي النهج مُتعدّد الجوانب الذي يقبل التناقضات، ندرك أيضًا منفعة تحديد الأطر الزمنية والجغرافية أحيانًا،[9] ولذلك كان تركيزنا على التسعينيات بشكل خاص، وعلى لبنان. مع ذلك، فسنوات الحرب الأهلية متجذِّرة في ذاكرة التسعينيات، بقدر ما يرتبط العام 2020 بتذكُّر عقد مضى. وكذلك، وعلى الرّغم من تركيزنا على قصص النساء والنسويات في لبنان، يستحيل سرد بعض القصص أحيانًا، من دون النظر إلى العوامل والعلاقات العابرة للحدود. 

نُدركُ دائمًا وجود كثيرٍ من القضايا الّتي تحتاجُ إلى تغطيةٍ، لذلك، نأمل أن تجدن ما تبحثن عنه في الصفحات الآتية من هذا الكتاب. في أحد اجتماعاتنا، فيما كنا نتحسّر على عدم تغطية موضوعات ووجهات نظر مُعيَّنة في هذه الإصدارة، ذكّرتنا صفاء من فريق التحرير أننا “لن ننتهي أبدًا إذا قمنا بتغطية كلّ شيء”، وهو ما جعلنا نفكّر بأنه على الرّغم من مرور أشهر عديدة على الانغماس في هذا المشروع، بَيدَ أنّه ما يزال لدينا الكثير لنتعلّمه، إِذْ إنّنا ما زلنا فضوليّات لمعرفة المزيد، ومتحمسات للمزيد من التعمّق، ولكن أيضًا للنظر نحو أطر وقصص مبدعة.

نريد من هذا الكتاب إيقاظ شوقنا الجماعي إلى الاستماع المتبادَل، والتواصل مع بعضنا بشكل حميمي. وكان فريق التحرير كلّما يتحدّث مع الكاتبات والباحثات والعاملات على هذا الكتاب، يتشجّعنَ على إظهارِ قصص النّساء وأصواتهنّ أكثر فأكثر. في الواقع، يُعَدُّ سرد القصص مِنْ صميم عمل “ورشة المعارف”، وهي القلب النابض لهذه الإصدارة. وكما ستقرأن في القسم التالي، كان التعلّم، والتذكُّر، والتواصل مِنْ صلب عمليّة إعداد هذه الإصدارة.

عن المسار، بقلم صفاء ط.

عندما كنّا نفكر من أين نبدأ، بدا أنّ هناك الكثير لنقوم به. انطلقنا في تجميع كلّ ما استطعنا إيجاده من معلومات وكتابات وفنون أُنتِجت في تلك الفترة أو عنها، وقرأنا كلّ ما استطعنا الحصول عليه من أوراق بحثية تتحدّث عن الحركة النسوية في لبنان في التسعينيات. علاوةً على ذَلِكَ، شاهدنا الأفلام التي قاربت مَوضُوعَاتٍ جندرية، ووضعنا لائحة الجمعيات النسوية والنسائية التي نشطتْ في تلك الفترة. نسمع أحيانًا عن الممثِّلين أو الممثِّلات الذين/اللواتي يحاولونَ/يُحاوِلنَ عَيشَ أدوارهم/هنّ قبل تصويرها، لذلكَ أدركنا ضرورة محاوَلة استعادة الكثير من تلك الفترة قبل أن نبدأ بإنتاج شيء جديد عنها، فاستعدنا موسيقى التسعينيات وبعضًا من جمالياتها الفنّية، وقرأنا عن العمارة في بيروت في تلك الفترة، وعن إعادة الإعمار المشوَّهة، كما عن الأدب والروايات والمسرح. بالإضافةِ إلى ذَلِكَ، بحثنا في الاقتصاد والنيوليبرالية، وفي العمالة المهاجِرة وشكل نظام الكفالة في تلك الفترة، وفي الحقوق الاقتصادية للنساء حينها. إذًا، هناك الكثير مما بدأ حينها وما زلنا نعيشه حتّى اليوم، والقليل الذي تغيّر وأردنا البحثَ أكثر عن كيفية وصولنا إليه، بغيةَ التّطرُّق إليه والبحث فيه.

ولكنَّ هذه الأبعاد المختلفة التي طمحنا في استكشافها كانت في حاجة إلى عملية متعدّدة، ومتوازية، ومتعاقِبة.

بدايةً، فتحنا باب التقديم لمشاريع بحثية ذات صلة بموضوعنا، نواكبها وندعمها خلال فترة البحث والكتابة، فاخترنا المشروع البحثي للونا دايخ لما يحمله من النظر في البعدين الاقتصاديّ والاجتماعيّ في نقل سرديات لنساء ناشطات. ثمّ فتحنا دعوة أكثر شُمُولًا لتقديم مقترَحات للكتابات والأبحاث. كما شجّعنا الكتابات غير الأكاديمية والتأملية، تارِكاتٍ للكاتبات/الكتّاب حُرّيّة اختيار المَوضوعات التي أردن/وا الكتابة عنها، في ظلّ إطارٍ وحيدٍ، وَهْوَ أن تكون “التسعينيات من منظور نسوي”. فضلًا عَنْ ذَلِكَ، بحثنا عن كتابات نقدية تحلّل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعن قصص وسرديات بأساليب تجريبية وأكثر حميميّة.

كان ذلك في تموز وآب من العام 2020، وفي ظل انهيارين سياسيّ واقتصاديّ في البلد، ومع انتشار فيروس كورونا، ثم مع تفجير المرفأ وبيروت. لا نُخفي أننا تساءلنا عن مدى جهوزية الناس للتفكير المعمّق والكتابة في هذه الظروف القاسية؛ فنحنُ بالطبع كنا نُدرِكُ أنَّ الكثير مما نعيشه اليوم هو تداعيات العقود السابقة خصوصًا التسعينيات، وكنّا نعرف كذلك أنّ الكثيرين/ات من الأفراد والمجموعات قد بدأوا/نَ بالتفكير أيضًا في هذه الصلات الزمانية، بخاصَّة بعد الانتفاضة الشعبية في العام 2019. لذلك كان جميلًا ومؤثِّرًا أن نتلقّى كمية ونوعية مُمتازَتَينِ من المقترَحات لمقالات عن المسرح والغناء والرسم، بالتوازي مع مقترَحات للبحث في الحركة النسوية في التسعينيات والواقع الاقتصادي للنساء، ومقالات أكثر شخصية عن تجارب عاشتها نسويات في تلك الفترة. وما كان فعلًا مثيرًا للاهتمام هو رؤية كيفيّة تقاطُع النصوص مع بعضها، وكيفية استحضار الأحداث نفسها من تلكَ الفترة، من قِبَلِ بَعضِ الكاتباتِ، كُلٌّ منهنّ بمنظورها المختلف، وبطريقة معايَشتها الأمور. 

وعندما قرأنا للمرة الأولى رسالة عزة شرارة بيضون من أرشيفها الخاص، التي تقدّمت بها لننشرها في الإصدارة، شعرنا بحماسة لا توصف مع كلّ فقرة؛ ذلك فعلًا ما كنّا نبحث عنه، أي أن نقرأ عمّا كانت تفكر به النسويات حينها، ونستكشف كيفيّة تفاعلهنّ مع الأحداث، وما الذي لم يصل إلينا مما كنَّ يتناقشن فيه حينها.

كذلك استعملنا التاريخ الشفوي كأداة للتواصل والتذكّر، حَيثُ أجرت زينب مقابَلة تاريخ شفوي على مرحلتين مع ث.، العاملة المهاجِرة التي تعيش في صيدا. جاءت ث. من سريلانكا إلى لبنان في فترة التسعينيات وما زالت هنا حتّى اليوم، وقد تكون قصتها شخصية ولكنها تتشارك في تفاصيل حياتها وصراعاتها مع مئات الآلاف من العاملات المهاجِرات في لبنان. ولأننا نقدِّرُ أهمية مجلة “الرائدة” ودورها في الإنتاج المعرفي النسوي في مختلف المراحل منذ إنشائها، تواصَلنا مع ميريام صفير، مديرة تحرير “الرائدة” حاليًّا والعاملة فيها منذ التسعينيات. وقَدْ خَرَجَتْ مقابَلة التاريخ الشفوي التي أجريناها مع ميريام بكثيرٍ من التفاصيل عن أحداث تلك الفترة، وعن بيروت التسعينيات، وعن نسويات عملت معهنَّ. كذلك، أجرينا أنا وزينب مقابَلة تاريخ شفوي مع وداد حلواني؛ وداد الّتي تمثّل في مخيلتنا قضية أردنا منذ البداية أن نسمع عنها ونتكلم عليها. ولطالما أدركنا أنَّ انتهاء الحرب رسميًّا لم يكن حقيقيًّا، لأنَّ منطق العنف بقي لسنوات بعدها، ولأنَّ العفو العام عن جرائم الحرب والاستعجال للنسيان والعودة إلى الحياة “الطبيعية” جاءت لتُلغي أيّ احتمال لفترة عدالة انتقالية. 

فَرَّغَتْ زينب مقابَلات التاريخ الشفوي كاملة، ثم اخترنا المقاطع واقتطعناها من التفريغ، أي تلكَ المتّصلة بالتسعينيات، وحوّلناها إلى نصوص نثرية شخصية. وقد حرّرنا النصوص، كفريق تحرير، بطريقة نعتقد أنها تُقيم توازُنًا بين كونها سهلة القراءة، مع الحِفاظ على قدر كبير من شفاهيتها ولغتها. ولكِنَّ الكتابة بلغة قريبة من العامية لم تَكُنْ أمرًا سهلًا، بسبب عدم وجود قواعد وأطر نعتمد عليها، لذلك، حاولنا قدر المستطاع المزج بين أصل الكلمات في الفصحى وطريقة لفظها بالعامية، واعتمدنا أساليب كتابة متنوعة بين النصوص الشفهية. أما في مقابَلة وداد حلواني، فقد استرجَعْنا أهم ما جاء في لقائنا، وكتبنا عنه في نصّ يتضمّن أيضًا بعض التأملات حول التفكير في قضية المفقودين، في لحظة يطالب فيها أهالي ضحايا تفجير المرفأ بالعدالة وبمحاسَبة المسؤولين.

وإلى جانب الأبحاث والكتابات ومقابَلات التاريخ الشفوي، كان هناك مَوضوعات وأصوات في صلب اهتمامنا ونظرتنا إلى هذا الكتاب وهدفه، ومن أهمّها: أن نبحث عن دروس لنا من تلك الفترة في أساليب التنظيم وأدواته مع نسويات وناشطات فلسطينيات ولبنانيات في المناطق شتّى في لبنان، وأن نسأل أكثر عن مشهد “الحياة الكويرية” قبل بداية تنظيمها حقوقيًّا وسياسيًّا، وأن نستكشف أكثر أوائل الأصوات المناهِضة للعنف ضد العاملات المهاجِرات، خصوصًا من العاملات أنفسهنّ. لذلك، جمعنا فريقًا متناغمًا من ثلاث باحثات لامعات، هُنَّ: فاطمة الموسوي، وماريان غطاس، وسينيتا عيسى، تشاركن في المَوضُوعات، بهدف التعمّق في فترة التسعينيات.

ومن أكثر ما استمتعنا به واستفدنا منه في العمل على هذا الكتاب، هو التواصل مع عدد كبير من الأفراد، والاستعانة بخبراتهنّ/هم في كلّ خطوة؛ فعملية مراجَعة المقالات والأبحاث، على سبيل المِثال، كانت مسارًا تعليميًّا جميلًا لنا كما للكاتبات المشارِكات، خصوصًا في تواصلنا مع أفراد من خلفيات أكاديمية وفنيّة ونشاطية مختلفة، ليُراجعوا/نَ الأقران للأبحاث، وقد شكّلوا/نَ فريقًا ملهمًا، تطرّقنا مَعَهُ إلى نقاشات جماعية حول الأوراق البحثية.

كما كنّا مُدرِكاتٍ كفريق تحرير أنّ بعض القضايا التي نبحث فيها هي قضايا الحركة النسوية المُعاصِرة، كذلك كنّا منتبهاتٍ إلى أنَّ اللغة وسياسة التحرير اللّتين نسلكهما أيضًا تعكسان هذه الحركة اليوم. لِذَلِكَ، اعتمدنا في سياساتنا التحريرية استعمال كلمة “النساء” بدلًا مِنَ “امرأة” لنشمل بها النساء على اختلاف هُويّاتهنّ. إلى جانِبِ ذَلِكَ، ناقشنا مع الكاتبات والباحثات في كثيرٍ من الأحيان مصطلَح “المرأة اللبنانية” الذي يُستعمل تلقائيًّا في غالبيّة الأوقات.  كما سعينا إلى توسيع لغتنا، سائِلاتٍ عن كيفيّة مُساهَمة النساء الفلسطينيات والسوريات والأثيوبيات والسريلانكيات وغيرهنَّ في تعميق وعينا النسوي، وباحثاتٍ في كيفيّة مُشاركتهنّ في تشكيل التاريخ النسوي لهذه البلاد بما فيه التسعينيات. ونرى في فصول هذه الإصدارة أنَّ بعض النسويات خاضَ هذه النقاشات ذاتها في التسعينيات، وحاول كسر خطاب النساء وتعدّد قضاياهنّ بـ”المرأة اللبنانيّة”. ويظهر بعد فصول هذا الكتاب وجود عنصرية بنيوية تتعارض مع بعض محاوَلات الحركة النسوية في التطرّق إلى القضايا بطرائق أكثر شُمُولًا.

عرفنا منذ بداية الطريق أننا نريد أن تكون الإصدارة بالعربية، إذ تجلّت في صلب عملنا الرغبة في إنتاج هذه المعرفة عن التسعينيات وإتاحتها بالعربية، لافتقارنا إلى مصادر نكتبها عن أنفسنا وتاريخنا بلغتنا. ولكن، كما كنّا نتوقّع، وصلنا بعض الأوراق البحثية بالإنكليزية، فعملنا على ترجمته وتحريره بمقارَبة نسوية، مُحافِظاتٍ على مفاهيم النصوص الأصليّة وروحها. لكننا أيضًا سعدنا بالنصوص والأبحاث التي وصلتنا بالعربية، إِذْ إنّها ذكّرتنا بوجود باحثات ونسويات قادراتٍ على إنتاج كتابات رائعة بلغتنا.

وهكذا كان مسار العمل على هذا الكتاب خلال سنة من الأحداث المتلاحِقة: جائحة كورونا في العالَم، والانهيار الاقتصادي والسياسيّ في لبنان، والتّظاهُرات والاعتصامات الّتي قُمِعَتْ بالعنف، وانفجار المرفإ في بيروت، والمزيد من قمع الاحتجاجات، وتفقير الناس، والهجرات الجماعية، والفضائح الّتي تتابَعَتْ في المشهد السياسيّ-الاقتصاديّ، والاغتيال السياسيّ. تبدو الأحداث كثيرة كأنه لا يمكن حصرها، ولكنَّ المفارَقة كانت دائمًا أننا كلما بحثنا أكثر في التسعينيات، فهمنا أهمية تعمُّقنا في هذه الحقبة، لنعرف عن واقعنا اليوم. في الواقِع، إنّ إدراك أهمّيّة هذه التراكمات من المعرفة عن تاريخنا بمنظور نسوي، هو ما أبقانا قادراتٍ على مواصَلة الكتابة والمُراجَعة. وندرك الآن بعد هذا المسار أهمية النظر إلى الماضي مع هذه المسافة الزمنية، ومع معرفتنا بتداعياته التي أوصلتنا إلى واقع البلاد اليوم وواقعنا كنسويات بإخفاقاتنا وإنجازاتنا. 

في الحوار– زينب الديراني

أوّل مرة سمعت فيها عن النسوية وتاريخها، وعن أسماء شخصيات شاركت في النضال النسوي عبر التاريخ، كانت من خلال الإنترنت. لم تروِ لي جدتي، ولا أمي، حكايات عن حياة نساء محليّات، على الرّغم من مشاركتهما القصص عن حياتهنّ وتاريخهنّ بشكل مستمر، واكتشافي أبعادًا نسوية في بعض تفاصيلها. أشارتْ لي صفحات البحث على النت إلى أنَّ النسوية “بدأت” في بلدان بعيدة لم أعش فيها. كان المحتوى مكتوبًا بلغات غير لغتي، وعن سياقات لا تشبهني. كنت في أوائل مراهَقتي حين حاولتُ، على قدر استطاعتي، تحليل الرابط بين تلك السياقات البعيدة وبين أيّ وجود نسويّ في لبنان، وتخيُّله. لكنَّ القصة التي كنت أحاول أن أشكّلها لم تسندها معلوماتي عن تاريخ هذا البلد وواقعه، ولا عن قصص النسوية وتاريخها وأشكالها، التي عرفتها من خلال الموجات النسوية العالميّة؛ فآنذاك، كُنتُ أجهَلُ وجود تواريخ وقصص نسوية أخرى لم تصلني بعد، وأطر أخرى للحديث عن التاريخ النسوي.

أردت أن أفهم: ماذا تعني النسوية بالنسبة إليّ؟ وكيف أناقش مع أمي أو رفيقاتي في المدرسة المصطلَحات النسوية التي أقرأ عنها إن لم تكن بلغتنا، وإن لم تنطبق أجزاءٌ منها مع واقعنا الجغرافي والطبقي والمحلي، مِنْ دون أن نشتبك نحن وتتشابك المفاهيم؟ 

كان هناك تاريخ محلّي ونسوي في هذه المنطقة لم أعرف عنه، إذ إنَّ هناك نسوياتٍ في البلد نفسه، وفي المدينتينِ اللّتَين أعيش فيهما (صيدا وبيروت) نَفسَيهما، ناضلن في سياقات عنيفة، ومع هيمنة واحتلالات متوازية ومتشابكة، أي عملن في أغلب الأحيان في ظلّ ظروفٍ غير حاضنة للعمل النسوي، لمساعي التغيير الاجتماعي، وللتكلّم على قضايا مهمَّشة.

 لو عرفتُ حينها بوجودِ تاريخٍ نسويٍّ يجمع بيني وبين أمي، بين نضالات الأجيال التي سبقتنا، وبين صراعاتنا اليوم، وبين نساء من بلدان ودوائر أكثر بُعدًا واتّساعًا، لكان في وسعي استخدام هذا التاريخ للتّحدُّث مع أمي ومع رفيقاتي، ومع نساء أخريات، ومع نفسي، بطريقة أفضل وبنَّاءة أكثر، بلغة نفهمها. إذًا، كان في وسعنا أن نستمدَّ الدعم من تجارب وسياقات مشابِهة اختبَرنها ونختبرها نحن اليوم، وأن توضّح لنا أنماطًا متكرّرة، لندرس كيفيّة التعامل معها في السابق، وما يعنيه ذلك لنا في الحاضر عن أساليب عملنا وتنظيمنا.      

ولهذا كان مسار العمل كلّه على هذا الكتاب، والحوارات والنقاشات الّتي حصلت حوله ومن خلاله، مرحلة تعليمية مهمّة بالنّسبةِ إليَّ، وهذا ما مثّله اللقاء النسوي العابر للأجيال الذي نظّمته ورشة المعارف في تشرين الثاني من العام 2020؛ كان هذا اللقاء— بالنسبة إليَّ، وبالنسبة إلى فريق التحرير، وربّما من جهة الّذين/اللّواتي حضروا /حضرنَ كلّهم/هنّ أيضًا— مساحة نادرة لتبادل القصص عبر الأجيال.

 اخترنا أن يكون اللقاء الأوّل (إذْ أردناهُ أن يكون بداية لقاءات متعدّدة وأكثر شُمُولًا) مغلَقًا، للحفاظ على درجة من الحميميّة. وقدْ تألَّفَ من لائحة طويلة من النسويات اللواتي نعرفهنَّ أو نسمع عنهنًّ، حَيثُ توجّهنا بثلاث عشرة دعوة شملت أفرادًا في بدايات تعرّفهنَّ/هم إلى النظريات والمجموعات النسوية، وأشخاصًا انخرطوا/نَ في العمل النسوي منذ ثلاث سنوات، ومنذ عشر سنوات، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، أتوا/نَ من داخل دوائرنا المقرّبة ومن خارِجها. ونخصّ بالذكر هنا الناشطة النسوية لينا أبو حبيب التي توجّهنا إليها مع فكرة هذا اللقاء، فاقترحت أسماء لنسويات في مختلف طور رحلتهنّ النسوية، وبالطبع كانت معنا خلال اللقاء نفسه، وهي التي شجعتنا على إقامة لقاءات أخرى مشابِهة.

كان اللقاء أيضًا فرصة لنا لنشارك بعض القصص التي سمعناها من خلال عملنا على تسعينيات نسوية، ولنستمع إلى أسئلة النّسويّات الشّابّات وآرائِهِنَّ.

وفي هاتين الساعتين اللتين التقينا فيهما، استمعنا إلى قصص ومَوضوعات كثيرة من التسعينيات، وسألْنا عَنهَا، سوف تتردّد بشكل موسَّع ومن منظور مختلف في هذا الكتاب، من بكين، إلى شبكة عايشة، ومحكمة النساء، والاستراتيجيات المختلِفة التي ابتكرتها النسويات لمُواجَهة تحديات ذلك الزمن. تحدّثتِ النسويات اللّواتي حَضَرْنَ مؤتمَر بكين عن كيفيّة تعرّفهنّ إلى مفاهيم وأطر جديدة للعمل النسوي، وعن تحديات إدراج هذه المفاهيم والمصطلَحات في أعمالهنّ.  والجدير ذكرُهُ أنَّ هذه المفاهيم أصبحت أساسية في الخطاب النسوي في القرن الواحد والعشرين. 

سمعنا بعضًا من الواقع الخاص بالحركة النسوية الفلسطينية في لبنان، التي تتعمّق فيها “ليلى العلي” في مقابلة أجرتها معها فاطمة الموسوي وسينتيا عيسى. في الواقع، استُخدِمَتْ عبارة “الحركة النسائية” بشكل يفرّق بينها وبين “الحركة النسوية”، وكان ذلك أوّل سؤال من أسئلة النسويات الأصغر سنًا. وكان هناك أسئلة أيضًا عن أشكال تطوّر الخطاب النسوي منذ التسعينيّات حتى الآن، حَيثُ فتح اللقاء تساؤلاتٍ حول كيفية ضمان استمرارية العلاقات بين الأجيال، وكيفيّة تواصُلنا بشكل مستمرّ، من دون أن يشكّل التواصل عبئًا إضافيًّا على جدول أعمال مُزدحِم دومًا بالواجبات والأعمال التي تبدو طارئة وأكثر إلحاحًا، وعن أساليب حِفاظنا مَعًا على روحية العمل الجماعي التي نجدها عند التنظيم مَعًا لفعّالية مُعيَّنة، وعن كيفيّة استمدادنا القوة والدعم من هذه الصلات لفترات أطول بعد انتهاء هذه الفعّالية.

ناقشنا قبل اللقاء وخلاله، سبل توسيع روحية اللقاء النسوي العابر للأجيال وتعميمه. نعرف أنه من غير الممكن لكتاب واحد أو لمجموعة واحدة أن يغطيا الأسئلة والجوانب كافّة التي تحيط بالنسوية خلال عقد كامل، وأنَّ اللقاء والتعارف وتشارُك التجارب والدروس هِيَ ممارَسات مهمة لتعزيز عملنا جميعًا، وأن /الكثيرات/ين من الفاعلات/ين   في العمل النسوي أوالمهتمّات/ين به، لَسنَ/ليسوا /كاتباتٍ/كتّابًا أو باحثاتٍ/باحِثينَ، لِذَلِكَ قد لا يكتبن/ون شهاداتهنّ/هم وفِكَرهنّ/هم. في الأخير، يبقى هدفنا في ورشة المعارف، من خلال هذا الكتاب، والمشاريع المختلِفة التي نعمل عليها، هو التشجيع على تذكّر تاريخنا وقصصنا وإعادة استكشافهما. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه القصص قد تتناغم مع السرديات الّتي يضمُّها هذا الكتاب، وقد تتناقضُ معها.

تقسيم الكتاب

في الفصل الأوّل، تكتب نجوى صبرا رسالة حبّ إلى أختها، وتتذكّر الأغاني التي نشأتا عليها في التسعينيات. يعرض الفصل الثاني تجربة ث.، التي أتت من سريلانكا كمراهِقة للعمل في لبنان في فترة التسعينيات، حيث تلتقط تجربتها الأمور الحياتية اليومية ومواجَهتها العنصريّة والظلم. وفي الفصل الثالث، تستكشف ميرا طفيلي ذكريات امرأة عاشت في بيروت خلال التسعينيات لدراسة ما تعنيه مدينة ما بعد الصراع بالنسبة إليها، وكيفيّة تطابُق ذلك مع افتراضات الباحثة حول تلكَ الحقبة.

يبدأ الفصل الرابع من اللحظة الراهنة، حيث تحمل ريم جودي حزن العام 2020 وغضبه، لتتأمّل في كتابات إيتيل عدنان وهوغيت كالان وفنَّيهما؛ ففي مقالها بعنوان “عن المدن والنساء والأجساد”، تضع جودي كلتا الفنانتين في محادَثة مع بعضهما، وتتحدّث معهما من خلال عملها للتفكير في الانتماء، ومدن ما بعد الحرب، والنفي والتحوّل. استدعت الباحثة رشا ملحم أيضًا كالان في الفصل الذي كتبته عن غاليري جانين ربيز، إذ عاينت كيفية دعم المعرض للفنانين، خصوصًا الفنانات خلال التسعينيات. وفي الفصل السادس، تتعمّق أريج أبو حرب في تاريخ الموسيقى في المنطقة العربية، لتضع سياقًا لكيفية ظهور المغنِّيات والفنانات في لبنان ولرؤاهنّ، في عصر الفيديو كليبات في التسعينيات. إلى ذلك، تستخدم الباحثة وطفاء حمادي ثلاث مسرحيّات من التسعينيات، لإظهار التحوُّل في الخطاب المركَّز حول النساء وأجسادهنّ وجنسانيتهنّ، والذي عكس غالبًا تغييرًا في الخطاب النسوي في لبنان.

يركّز الفصلان الثامن والتاسع على الجوانب الاجتماعية-الاقتصادية لحياة النساء في لبنان؛ إِذْ تستكشف نانسي غزيّل الظروف الاقتصادية لأربع نساء في صور خلال التسعينيات، وتبحث في القمع والعنف المنهجيَّين، مُبرِزةً كيف أدّت الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان إلى تصعيد هذا العنف. إلى ذلك، تركّز لونا دايخ في الفصل التاسع على “مَواقع المقاوَمة” من خلال نشاط ثلاث نساء في بيروت، فتسرد قصة التسعينيات من وجهة نظرهنّ، وتعرض كيف اختَبَرنَ إعادة الإعمار النيوليبرالية لحقبة ما بعد الحرب، وكيف قاومن المعايير الجندرية، واختبرن تخريب الحركات التي سعت إلى إيجاد بدائل لهذا النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

في الفصل العاشر، يكتب فريق التحرير معًا عن تجربة وداد حلواني شهادة في لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان. وفي الفصل الحادي عشر، تُجري الباحثتان فاطمة الموسوي وسينتيا عيسى مقابَلة مع الناشطة النسوية الفلسطينية ليلى العلي التي تروي قصّة جمعية “نجدة الاجتماعيّة” وأعمال النسويات الفلسطينيات واللبنانيات في التسعينيات.

وفي الفصل التالي، تلتقط فاطمة الموسوي الجوانب والأصوات العديدة للنضال النسوي في التسعينيات في لبنان، وتنتهي بالإشارة إلى القضايا التي همّشتها النسويات خلال ذلك العقد. تتبعها ماريان غطّاس ثم سينتيا عيسى لمُحاوَلة ملء هذا الصمت؛ ففي الفصل الثالث عشر، تكتب غطّاس عن السياق الذي أدّى إلى عزل تمثيل النساء المثليّات والمُتحوِّلات جنسيًا ومَحوه، مُوضِحَةً ظهور أصوات ومساحات مُبكِّرة في نهاية التسعينيات، أوصَلَتْ في النهاية إلى نمو النشاط الكويري في القرن الحادي والعشرين. أمّا في الفصل الرابع عشر، فتروي سينتيا عيسى قصص ثلاث عاملات مُهاجِرات، لتظهر من خلالها ثلاث قصص عن نشاط بدأ في الثمانينيات، في زمن الصمت النسوي اللبناني حول هذه القضية، إلى حين خلْق المزيد من المساحات وأسس الإدماج والتضامن في الخطاب و/أو المُمارَسة.

يقدّم الفصل الخامس عشر شهادة أخرى، إذ تعود ميريام صفير بنا إلى أوائل التسعينيات، عندما انضمّت إلى مجلّة “الرائدة” بعد وقت قصير من تخرُّجها، واستكشفت المدينة والأنشطة النسوية خلال تلك الفترة. أمّا في الفصل السادس عشر، وبعنوان “الوعي النسوي في تسعينيات لبنان”، فتكتب لينا أبو حبيب تحليلًا عن الحركة النسوية في التسعينيات حين أعادت تجميع نفسها بعد سنوات من الحرب الأهلية، مُسَلِّطَةً الضوء على كيفية تحوُّل القضايا النسوية وطرائِق العمل في التسعينيات على الرّغم من المُقاوَمة ومُحاوَلات الاستيلاء، وتُظهِر أيضًا كيف ساهم مؤتمَر “بكين” والاجتماعات التحضيرية التي سبقته في هذا التحوّل. ويشكّل الفصل السابع عشر وثيقة أرشيفية شاركتها معنا عزّة شرارة بيضون، وهي رسالة مؤرّخة في العام 1995، تعرض فيها فِكَرَهَا حول الاجتماعات التي ساهَمَتْ في انعِقادِ مؤتمَر “بكين”. أخيرًا، ننتهي بالتأملات الشخصية لجِين سعيد مقدسي التي تأثرّت بالإحباطات المتولِّدة مِنْ مُشارَكتها في جهود تنظيم النساء والنسويات خلال التسعينيات، والتي أخذتها إلى طريق آخَر، وهو استكشاف تاريخ حياة النساء في عائلتها وفي مُجتمَعها.

بينما كنّا ننهي العمل على هذا الكتاب، وصلنا خبر موجع عن رحيل الأستاذة وطفاء حمادي التي كان لنا أطيب الذكريات في العمل معها من خلال نصها الوارد هنا. لقد استمتعنا وتعلمنا من نقاشاتنا معها، وتشجعنا من دعمها لنا. شكرًا وطفاء على كل ما قدّمته للفكر النسوي. ستبقين في ذاكرتنا وقلوبنا دائمًا.


 المقطع الأوّل والأخير من هذه المقدمة من ترجمة: فيفيان عقيقي[1]

[2]  جين سعيد مقدسي، ورشة المعارف، https://www.alwarsha.org/?p=304.

[3] للاطلاع على منشور يستكشف النساء والنسويات في عقد سابق، يمكن العودة إلى عدد “باحثات” عن “النساء العربيّات في عشرينيات القرن الماضي: تغيير أنماط الحياة والهُوية” (2003).

[4] سارة أبو غزال، “سبع عبر من العمل النسوي في بيروت”، صوت النسوة 2015، https://sawtalniswa.org/article/471.

[5] هذه الفكرة حول حاجة النسويات إلى ترك الحرب والمضي قدمًا، وضَّحتها لي فاطمة الموسوي خلال نقاشنا حول مقابَلاتها البحثية أو ما شاركته النسويات معها خلال هذه المقابَلات. تأملات من النسويات أنفسهنّ. للمزيد، بالإمكان الاطّلاع على بحث فاطمة في الفصل 12.

[6] في العام 2014، أنهيت العمل على أطروحة الدكتوراه الخاصّة بي، إذ أمضيت بضع سنوات في محاوَلة تجميع تاريخ للنسوية في لبنان لتأريض الفكر النسوي الكويري ونشاطه، ولتوسيعهما. في ذلك الوقت، بدأت البحث عن طرائق لسرد تفكّك الافتراضات حول التسلسل الزمني وتعطُّلها، وتعطي النسوية عمومًا، والنسوية الكويرية خصوصًا، ماضيًا نشعر بأننا جزء منه، ويضعنا أيضًا في اتصال مع بعض القضايا التي يتعيّن علينا مواجَهتها. أمّا أكثر ما علّمني في هذا الصدد، فكانت كتابات النسويات السود، والسكّان الأصليين، والنسويات من أصول مكسيكيّة (وغالبهنّ مثليات/كويريات)، وتنظيراتهنّ، وانتقاداتهنّ للموجات، وتنظيرهنّ للعلاقات مع الزمن التي لا تتّبع فكرة خط مستقيم من التسلسل الزمني. قرأت لكاتبات وناشطات ومعلِّمات مثل غلوريا أنزالدوا Gloria Anzaldua ، وم. جاكي ألكساندر M. Jacqui Alexander، ومايلي بلاكويل Maylei Blackwell، وأليكسيس بولين غامبس Alexis Pauline Gumbs، وأوكي سيمين فورست Ohki Simine Forest وغيرهنَّ. نظرت أيضًا إلى طرائق سرد القصص وهيكليّاتها في الإنتاجات الأدبيّة في منطقتنا (مثل ألف ليلة وليلة). ولطالما حشدت القصص ورواتها، القدامى والمعاصرون، حركة غير متسلسلة للأحداث، حيث تفسح قصّة واحدة الطريق أمام قصص أخرى، لتعود إلى نقاط البداية أو الإطار الأساسي للقصة. لمعرفة المزيد عن هذه الأطر والتواريخ، راجع “حركات الظلّ النسوية في لبنان”،“Shadow Feminism in Lebanon”، Sawt al Niswa، 2015 https://sawtalniswa.org/article/460.  

 وبالإمكان النظر إلى الجزء الثاني من هذا التاريخ في موقع “صوت النسوة” أيضًا: https://sawtalniswa.org/article/481.

[7] للحصول على أمثلة أخرى لاستخدام العلاقة الدورية ومُتعددة الاتجاهات للزمن، يمكن الاطلاع على “دراسات الذاكرة والأنتروبوسين: طاولة مستديرة”، نشر في Memory Studies (2017) (شكرًا إسلام الخطيب على تعريفي إلى هذا المرجع).

[8] أتطرق إلى هذه الفكرة بإيجاز أيضًا، في مقالة تصدر قريبًا في تقرير العلوم الإنسانيّة العالميّ، الذي يعدّه المجلس العربي للعلوم الاجتماعية:

Kaedbey, Deema. “On Feminist Platforms in the MENA: Experiments with New Terms and New Terms of Engagements.” World Humanities Report (forthcoming in 2021).

[9] أشكر هنا سليمان التي لفتت انتباهي إلى هذه المَلحوظة حول التركيب الزمني، عندما كانت تعلّق على المسوّدة الأوّلية لدعوة تقديم أوراق هذه الإصدارة. أشكر أيضًا لميا مغنيّة، وآية هشام، وميرا عسّاف كافانتاريس، وسارة أبو غزال، على تعليقاتهنَّ على الدعوات المختلِفة لهذه الإصدارة.